كيف تتلذذ بالصلاة
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم ( أسرار الصلاة ) :
( فصلٌ
في
الموازنة بين ذوق السَّماع وذوق الصلاة و القرآن ، و بيان أنَّ أحد
الذوقين مباين للآخر من كل وجه ، و أنه كلَّما قوي ذوق أحدهما و سلطانه ضعف
ذوق الآخر و سلطانه.
الصلاة قرة عيون المحبين و هدية الله للمؤمنين(1)
فاعلم
أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين ، و لذة أرواح الموحدين ، و بستان
العابدين و لذة نفوس الخاشعين ، و محك أحوال الصادقين ، و ميزان أحوال
السالكين ، و هي رحمةُ الله المهداة إلى عباده
المؤمنين .
هداهم
إليها ، و عرَّفهم بها ، و أهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين ،
رحمة بهم ، و إكراما لهم ، لينالوا بها شرف كرامته ، و الفوز بقربه لا
لحاجة منه إليهم ، بل منَّة منه ، و تفضَّلا عليهم ، و تعبَّد
بها
قلوبهم و جوارحهم جميعا ، و جعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين و
أعظمهما ؛ و هو إقباله على ربِّه سبحانه ، و فرحه و تلذذه بقربه ، و تنعمه
بحبه ، و ابتهاجه بالقيام بين يديه ، و انصرافه حال
القيام له
بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده ، و تكميله حقوق حقوق عبوديته ظاهرا و
باطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.
و لما امتحن الله
سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها من داخل فيه و خارج عنه ، اقتضت تمام رحمته
به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان و التحف و التحف
و الخلع و الخلع و العطايا ،
و دعاه إليها كل يوم خمس مرَّات ، و
جعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة ، لذة و منفعة و مصلحة و وقار لهذا
العبد ، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر ، لتكمل لذة
عبده في كل من
ألوان العبودية و يُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف
الكرامة ، و يكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا لمذموم كان يكرهه
بإزائه ، و يثيبه عليه نورا خاصا ، فإن الصلاة نور و قوة في قلبه و جوارحه و
سعة
في رزقه ، و محبة في العباد له ، و إن الملائكة لتفرح و كذلك
بقاع الأرض ، و جبالها و أشجارها ، و أنهارها تكون له نورا و ثوابا خاصا
يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة و قد أشبعه و قد أشبعه و
أرواه ، و خلع عليه بخلع القبول ، و أغناه ، و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي
هذه المأدبة ، قد ناله من الجوع و القحط و الجذب و الظمأ و العري و
السقم ما ناله ، فصدر من عنده و قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه .
تشبيه القلب بالأرض
و
لما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب ، و قحطُ النفوس متوالياً عليها ،
جدّد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال
مُستسقيا ، طالبا إلى من بيده غيثُ القلوب ، و سَقيُها مستمطراً
سحائب
رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان ، و كلأ
الإحسان و عُشبه و ثماره ، و لئلا تنقطع مادة النبات من الروح و القلب ،
فلا يزال القلب في استسقاء و استمطار هكذا دائما ، يشكو
إلى ربه جدبه ، و قحطه ، و ضرورته إلى سُقيا رحمته ، و غيث برِّه ، فهذا دأب العبد أيام حياته.
فالقحط
الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ، فالغفلة هي قحط القلوب و جدبها ، و ما دام
العبد في ذكر الله و الإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك ،
فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة و كثرة
، فإذا تمكَّنت
الغفلة منه ، و استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ، و سنته جرداء يابسة ، و
حريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم.
فتصير أرضه بورا بعد
أن كانت مخصبة بأنواع النبات ، و الثمار و غيرها ، و إذا تدارك عليه غيث
الرحمة اهتزت أرض إيمانه و أعماله و ربت ، و أنبتت من كلِّ زوج بهيج ، فإذا
ناله القحط و الجدب كان
بمنزلة شجرة رطوبتها و خضرتها و لينها و
ثمارها من الماء ، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها و ذبلت أغصانها ، و
حُبست ثمارها ، و ربما يبست الأغصان و الشجرة ، فإذا مددت منها غصناً إلى
نفسك لم
يمتد ، و لم ينْقَد لك ، و انكسر ، فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار .
القلب
ييبس إذا خلا من توحيد الله فكذلك القلب ، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد
الله و حبه و معرفته و ذكره و دعائه ، فتصيبه حرارة النفس ، و نار الشهوات ،
فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها ،
و الانقياد إذا
قُدتها ، فلا تصلح بعدُ هي و الشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم
مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22] ، فإذا كان القلب ممطورا
بمطر الرحمة ، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة
رطبة ، فإذا مددتها إلى
أمر الله انقادت معك ، و أقبلت سريعة لينة وادعة ، فجنيت منها من ثمار
العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه ،
فالمادة تعمل عملها في
القلب و الجوارح ، و إذا يبس القلب تعطلت
الأغصان من أعمال البِّر ؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر
في الجوارح ، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية ، و لله في كل جارحة من
جوارح
العبد عبودية تخُصُّه ، و طاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها و هيئت لها .
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
و الناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له ، و أريد منها ، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة ، و باع نفسه لله بأربح البيع.
و
الصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعاً لقيام القلب بها و
هذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح و ما أنعم عليه من
الآلاء ، و النعم ، فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل
جوارحه في طاعة ربِّه ، و حفظ نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و
الثاني : من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له ، بل حبسها على المخالفات و
المعاصي ، و لم يطلقها ، فهذا هو الذي خابَ سعيه ، و خسرت تجارته ، و فاته
رضا ربَّه عزَّ و جل عنه ، و جَزيل ثوابه ، و
حصل على سخطه و أليم عقابه.
و
الثالث : مَن عطَّل جوارحه ، و أماتها بالبطالة و الجهالة، فهذا أيضا خاسر
بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إنما خُلق للعبادة و الطاعة لا
للبطالة .
و أبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل الدنيا و لا في سعي الآخرة.
بل
هو كلّ على الدنيا و الدين ، بل لو سعى للدنيا و لم يسع للآخرة كان
مذموماً مخذولاً ، و كيف إذا عطّل الأمرين ، و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما
، و يذهل عن أُخراه ، لا شكَّ خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل
الأول ، كرجل أُقطع أرضا واسعة ، و أعين على عمارتها بآلات الحرث ، و
البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها ، فحرثها و هيَّأها للزراعة ، و بذر
فيها من أنواع الغلات ، و غرس فيها من أنواع
الأشجار و الفواكه
المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط ، و لم يهملها بل أقام عليها الحرس ، و
حصنها من الفساد و المفسدين ، و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه ، و
يغرس فيها عوض ما يبس ، و
ينقي دغلها و يقطع شوكها ، و يستعين بغلَّتها على عمارتها.
و
الثاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض ، و جعلها مأوى السباع و الهوام ، و
موضعاً للجيف و الأنتان ، و جعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و
لصٍّ ، و أخذ ما أعين به من حرثتها و بذارها و
صلاحها ، فصرفه و جعله معونة و معيشة لمن فيها ، من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث : بمنزلة رجل عطَّلها و أهملها و أرسل الماء ضائعاً في القفار و الصحارى فقعد مذموماً محسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة ، و أهل الغفلة ، و أهل الخيانة.
أهل اليقظة و الغفلة الخيانة
فالأول : مثال أهل اليقظة ، والاستعداد لما خلقوا له.
و الثاني : مثال أهل الخيانة.
و الثالث : مثال لأهل الغفلة .
فالأول
: إذا تحرّك أو سَكَن ، أو قام أو قعد ، أو أكل أو شرب ، أو نام ، أو لبس ،
أو نطق ، أو سكت كان كلِّه له لا عليه ، و كان في ذكر و طاعةٍ و قربة و
مزيد .
و الثاني : إذا فعل ذلك كان عليه لا له ، و كان في طردٍ و إبعادٍ و خُسران .
و الثالث : إذا فعل ذلك كان في غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ .
فالأول : يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة و القربة.
و
الثاني : يتقلب في ذلك بحكم الخيانة و التعدِّي ، فإن الله لم يملِّكه ما
ملّكه ليستعين به على مخالفته ، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه
معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعته.
و الثالث : يتقلب في ذلك و
يتناوله بحكم الغفلة و الهوى و نهمة النفس و طبعها ، لم يتمتع بذلك ابتغاء
رضوان الله تعالى و التقرب إليه ، فهذا خسرانه بيَّن واضح ، إذ عطّل أوقات
عمره التي لا قيمة لها عن
أفضل الأرباح و التجارات .
فدعا
الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس ، رحمة منه بهم ، و
هيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون
حظه من عطاياه.
ما هو سرّ الصلاة ؟ و تمثيل لذلك و كان سرُّ الصلاة
و لُبها إقبال القلب فيها على الله ، و حضوره بكلِّيته بين يديه ، فإذا لم
يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه ، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب
الملك
معتذرا من خطاياه و زلله مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته ،
مستطعما له ما يقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلما وصل إلى
باب الملك ، و لم يبق إلا مناجته له ، التفت عن الملك وزاغ
عنه
يمينا و شمالا ، أو ولاه ظهره ، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، و أقلّه
عنده قدرا عليه ، فآثره عليه ، و صيَّره قلبة قلبه ، و محلَّ توجهه ، و
موضع سرَّه ، و بعث غلمانه و خدمة ليقفوا في خدم
طاعة الملك عوضا
عنه و يعتذروا عنه ، و ينوبوا عنه في الخدمة ، و الملك يشاهد ذلك و يرى
حاله مع هذا ، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك
الخدم و الأتباع ، فيصيبه من
رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة
الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين ، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : { و
لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف
:19] ، و الله
سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و
اختصه له ، و خلق كل شيء له ، و من أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم
خلقتك لنفسي ، و خلقت كلِّ شيء لك ، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك
عمَّا خلقتك له " .
و
في أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و تكفلت برزقك فلا تتعب ،
ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء ، و إن فُتَّك فاتك كلّ
شيء ، و أنا أحب إليك من كلّ شيء".
و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه ، و مناجاته ، و محبته و الأنس به .
ما
بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة و ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة و
الجفوة و القسوة ، و الإعراض و الزَّلات ، و الخطايا ، فيبعده ذلك عن ربه ،
و ينحّيه عن قربه ، فيصير بذلك كأنه أجنبيا من
عبوديته ، ليس من جملة العبيد ، و ربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره ، و غلَّه ، و قيَّده ، و حبسه في سجن نفسه و هواه .
فحظه
ضيق الصدر ، و معالجة الهموم ، و الغموم ، و الأحزان ، و الحسرات ، و لا
يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته
عبودية جامعة ، مختلفة الأجزاء ، و
الحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد ، و بحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية .
الكلام عن الوضوء
فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ ، و يُقدم على ربِّه متطهرا ، و الوضوء له ظاهر و باطن :
فظاهره : طهارة البدن ، و أعضاء العبادة.
و
باطنه و سرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب و المعاصي و أدرانه بالتوبة ؛
و لهذا يقرن تعالى بين التوبة و الطهارة في قوله تعالى : { إن الله يحب
التَّوابين و يحب المتظهرين }[ البقرة : 222] و
شرع النبي صلى الله
عليه و سلم للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول :
"اللهم اجعلني من التوّابين ، و اجعلني من المتطهرين " .
فكمَّل له
مراتب العبدية و الطهارة ، باطنا و ظاهرا ، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك ،
و بالتوبة يتطهر من الذنوب ، و بالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة .
فشرع
له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز و جل ، و الوقوف بين يديه ،
فلما طهر ظاهرا و باطنا ، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه و بذلك
يخلص من الإباق.
و بمجيئه إلى داره ، و محل عبوديته يصير من جملة
خدمه ، و لهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند
قوم و المستحبة عند آخرين.
من تمام العبودية الذهاب للمسجد و العبد
في حال غفلته كالآبق من ربه ، قد عطّل جوارحه و قلبه عن الخدمة التي خُلق
لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ، فإذا وقف بين يديه موقف و التذلل و
الانكسار ، فقد
استدعى عطف سيِّده عليه ، و إقباله عليه بعد الإعراض عنه .
عبودية التكبير " الله أكبر ".
و
أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته الحرام ـ بوجهه ، و يستقبل الله عز و جل
بقلبه ، لينسلخ مما كان فيه من التولي و الإعراض ، ثم قام بين يديه مقام
المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه ، و ألقى
بيديه
مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس ، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ،
و طرفة عين ، لا يمنة و لا يسرة ، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه.
و
أقبل بكليته عليه ، ثم كبَّره بالتعظيم و الإجلال و واطأ قلبه لسانه في
التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء ، و صدَّق هذا التكبير بأنه لم
يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه ، فإنه إذا كان
في
قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه
إذا اشتغل عن الله بغيره ، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله ، و كان
قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل
على غير الله ،
معظما له ، مجلاً ، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير ، أخرجه من لبس
رداء التكبّر المنافي للعبودية ، و منعه من التفات قلبه إلى غير الله ، إذا
كان الله عنده و في قلبه أكبر من كل شيء
فمنعه حقّ قوله : الله أكبر و القيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين ، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه و بين الله تعالى.
عبودية الاستفتاح
فإذا
قال : " سبحانك اللهم و بحمدك" و أثنى على الله تعالى بما هو أهله ، فقد
خرج بذلك عن الغفلة و أهلها ، فإن الغفلة حجاب بينه و بين الله.
و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له و تمهيدا ، و كان ذلك تمجيدا و مقدمة بين يدي حاجته.
فكان في الثناء من آداب العبودية ، و تعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه ، و رضاه عنه ، و إسعافه بفضله حوائجه
حال العبد في القراءة و الاستعاذة
فإذا
شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص
ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد و
أنفعها له في دنياه و آخرته ، فهو أحرص شيء على
صرفه عنه ، و
انتفاعه دونه بالبدن و القلب ، فإن عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن
اقتطع قلبه و عطَّله ، و ألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق
العبودية بين يدي الرب تبارك و تعالى ، فأمر
العبد بالاستعاذة
بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه و ليحي قلبه ، و يستنير بما يتدبره و
يتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه ، و نعيمه و فلاحه ،
فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن
مقصود التلاوة.
و
لما علم الله سبحانه و تعالى حَسَد العدو للعبد ، و تفرّغه له ، و علم عجز
العبد عنه ، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ، و يلتجئ إليه في صرفه عنه ،
فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته و مقاومته ، و كأنه
قيل له : لا طاقة لك بهذا العدو ، فاستعذ بي أعيذك منه ، و استجر بي أجيرك منه ، و أكفيكه و أمنعك منه .
نصيحة ابن تيمية لابن القيِّم
و
قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه و نوَّر ضريحه يومًا : إذا
هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ، و مدافعته ، و عليك بالراعي
فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب ، و يكفيكه.
فإذا استعاذ الإنسان
بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه فأفضى القلب إلى معاني القرآن ، و وقع
في رياضه المونقة و شاهد عجائبه التي تبهر العقول ، و استخرج من كنوزه و
ذخائره ما عين رأت و لا أذن
سمعت و لا خطر على قلب بشر ، و كان
الحائل بينه و بين ذلك ، النفس و الشيطان ، فإن النفس منفعلة للشيطان ،
سامعة منه ، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها ، و طُرد ألَّم بها الملَك ، و ثبَّتها
و ذكّرها بما فيه سعادتها
و نجاتها.
فإذا أخذ العبد في
قراءة القرآن ، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه و مناجاته ، فليحذر كل الحذر
من التعرّض لمقته و سخطه ، بأن يناجيه و يخاطبه ، و قلبه معرِض عنه ، ملتفت
، إلى غيره ، فإنه يستدعي بذلك
مقته ، و يكون بمنزلة رجل قرَّبه
ملك من ملوك الدنيا ، و أقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك ، و قد ولاَّه
قفاه ، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة ، فهو لا يفهم ما يقول الملك ،
فما الظن بمقت الملك لهذا.
فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين و قيوم السماوات و الأرضين.
حال العبد في الفاتحة
فينبغي
بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة ، ينتظر جواب ربِّه له ،
و كأنه يسمعه و هو يقول : " حمدني عبدي " إذا قال : { الحمدُ للهِ ربِّ
العالمينَ}.
فإذا قال : { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله : " أثنى عليَّ عبدي ".
فإذا قال : {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله : " مجَّدني عبدي ".
فإذا قال : { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى : " هذا بيني و بين عبدي ".
فإذا قال : {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها انتظر قوله : " هذا لعبدي و لعبدي ما قال ".
و
مَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير و الفاتحة غيرهما
مقامها ، كما لا يقوم غير القيام و الركوع و السجود مقامها ، فلكلٍّ
عبوديته من عبودية الصلاة سرٌّ و تأثيرٌ و عبودية لا تحصل في غيرها
، ثمَّ لكل آية من آيات الفاتحة عبودية و ذوق و وجد يخُصُّها لا يوجد في غيرها.
فعند
قوله : { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة إثبات كللّ كمال
للرب و وصفا و اسما ، و تنزيهه سُبحَانه و بحمده عن كلِّ سوء ، فعلاً و
وصفاً و اسماً ، و إنما هو محمود في أفعاله و أوصافه و
أسمائه ، مُنزَّه عن العيوب و النقائص في أفعاله و أوصافه و أسمائه.
فأفعاله كلّها حكمة و رحمة و مصلحة و عدل و لا تخرج عن ذلك ، و أوصافه كلها أوصاف كمال ، و نعوت جلال ، و أسماؤه كلّها حُسنى.
من معاني الحمد
و
حمده تعالى قد ملأ الدنيا و الآخرة ، و السموات و الأرض ، و ما بينهما و
ما فيهما ، فالكون كلّه ناطق بحمده ، و الخلق و الأمر كلّه صادر عن حمده ، و
قائم بحمده ، و وجوده و عدمه بحمده ، فحمدُه هو
سبب وجود كل شيء
موجود ، و هو غاية كل موجود ، و كلّ موجود شاهد بحمده ، فإرساله رسله بحمده
، و إنزاله كتبه بحمده ، و الجنة عُمِّرت بأهلها بحمده ، و النَّار
عُمِّرت بأهلها بحمده ، كما أنَّها إنَّما
وجدتا بحمده.
و
ما أُطيع إلا بحمده ، و ما عُصي إلا بحمده ، و لا تسقط ورقة إلا بحمده ، و
لا يتحرك في الكون ذرَّة إلا بحمده ، فهو سبحانه و تعالى المحمود لذاته ، و
إن لم يحمده العباد.
كما أنه هو الواحد الأحد ، و إن لم يوحِّده
العباد ، و هو الإله الحقُّ و إن لم يؤلِّهه ، سبحانه هو الذي حمِد نفسه
على لسان الحامد كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى قال
على لسان نبيه :
سَمعَ اللهُ لمن حَمِدَه".
فهو الحامدُ
لنفسه في الحقيقة على لسان عبده ، فإنه هو الذي أجري الحمدَ على لسانه و
قلبه ، و أجراؤه بحمده فله الحمد كله ، و له الملك كله ، و بيده الخير كله ،
و إليه يرجع الأمر كله ، علانيته و سره .
فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد ، و هي نقطة من بحر لُجِّي من عبوديته.
و
من عبوديته أيضا : أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه ، يستحق عليها
الحمد ، فإذا حمده عليها استَّحق على حمده حمداً آخر ، و هلَّم جرا.
فالعبد
و لو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه ، كان ما يجب عليه
من الحمد عليها فوق ذلك ، و أضعاف أضعافه ، و لا يُحصي أحد البتّة ثناءً
عليه بمحتمده ، و لو حمده بجميع المحامد فالعبد
سائر إلى الله بكلِّ نعمة من ربِّه ، يحمده عليها ، فإذا حَمده على صرفها عنه ، حمده على إلهامه الحمدُ.
قال الأوزاعي : " سمعت بعض قوَّال ينشد في حمامٍ لك الحمدُ إمّا على نعمةٍ و إمَّا على نقمة تُدفع".
و
من عبودية الحمد : شهود العبد لعجزه عن الحمد ، و أنَّ ما قام به منه ،
فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك ، فهو محمود عليه ، إذ هو الذي أجراه على
لسانه و قلبه ، و لولا الله ما اهتدى أحد.
و من عبودية الحمد :
تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها و باطنها على ما يحب العبد
منها و ما يكره ، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم ، برِّهم و فاجرهم ،
علويهم و سفليهم ، فهو سبحانه
المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة ، و
إن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك ، و ما يستحق الرب تبارك و تعالى من الحمد
على ذلك و الحمد لله : هو إلهام من الله للعباد ، فمستقل و مستكثر على قدر
معرفة العبد بربه.
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الشفاعة : " فأقع ساجداً فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط ".
عبودية {ربِّ العالمين}
ثم
لقول العبد : : { ربِّ العالمين} من العبودية شهود تفرّده سبحانه
بالربوبية وحده ، و أنَّه كما أنه رب العالمين ، و خالقهم ، و رازقهم ، و
مدبِّر أمورهم ، و موجدهم ، و مغنيهم ، فهو أيضا وحده إلههم ، و معبودهم ،و
ملجأهم و مفزعهم عند النوائب ، فلا ربَّ غيره ، و لا إله سواه.
عنوان : عبودية { الرَّحمَن الرَّحيم} و لقوله : { الرَّحمن الرَّحيم } عبودية تخصه سبحانه ، و هي شهود العبد عموم رحمته.
و
شمولها لكلّ شيء ، و سعتها لكلِّ مخلوق و أخذ كلّ موجود بنصيبه منها ، و
لاسيما الرحمة الخاصَّة بالعبد و هي التي أقامته بين يدي ربه : أقم قلاناً ـ
ففق بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا ،
و أنم فلانا
فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه ، و يتملقه و يسترحمه و يدعوه
و يستعطفه و يسأله هدايته و رحمته ، و تمام نعمته عليه دنياه و أخراه فهذا
من رحمته بعبده ، فرحمته وسعت كل
شيء ، كما أن حمده وسع كل شيء ، و
علمه وسع كل شيء ، { ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّحمة و علما} [ غافر :7] ، و
غيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصَّة فهو منفي عنها.
عنوان عبودية { مالكِ يومِ الدِّينِ}
و
يعطى قوله { مالك يوم الدِّين } عبوديته من الذلِّ و الانقياد ، و قصد
العدل و القيام بالقسط ، و كفَّ العبد نفسه عن الظلم و المعاصي ، و ليتأمل
ما تضمنته من إثبات المعاد و تفرَّد الربِّ في ذلك بالحكم
بين خلقه
، و أنه يومٌ يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير و الشر ، و ذلك من
تفاصيل حمده ، و موجبه كما قال تعالى : { و قُضيَ بينَهم بالحقِّ و قيل
الحمدُ لله ربِّ العالمين}[الزمر:75].
و يروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة و أهل النار ، عدلا و فضلا ، و لما كان قوله {الحمد لله رب العالمين}.
إخبارا عن حمد عبده له قال : حمدني عبدي.
ما معنى ( الثناء ) (التمجيد)
و
لما كان قوله { الرحمن الرحيم} إعادة و تكريرا لأوصاف كماله قال : " أثنى
عليَّ عبدي " ، فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار المحامد ، و تعداد أوصاف
المحمود ، فالحمد ثناء عليه ، و { الرحمن الرَّحيم }
وصفه بالرحمة.
و
لما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين و هو الملك الحق ، مالك الدنيا
و الآخرة ؛ و ذلك متضمِّن لظهور عدله ، و كبريائه و عظمته ، و وحدانيته ، و
صدق رُسله ، سمَّى هذا الثناء مجداً فقال : "
مجَّدني عبدي " فإن التمجيد هو : الثناء بصفات العظمة ، و الجلال ، و العدل ، و الإحسان .
عبودية { إيَّاك نعبدُ }
فإذا قال : { إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعين } انتظر جواب ربه له : " هذا بيني و بين عبدي ، و لعبدي ما سأل ".
و
تأمل عبودية هاتين الكلمتين و حقوقهما ، و ميِّز الكلمة التي لله سبحانه و
تعالى ، و الكلمة التي للعبد ، و فِقهِ سرَّ كون إحداهما لله ، و الأخرى
للعبد ، و ميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } و
التوحيد
الذي تقتضيه كلمة { و إيَّاك نستعين } ، و فِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين
في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما ، و الدعاء بعدهما ، و فِقه تقديم {
إياك نعبد } على { و إياك نستعين } ، و تقديم
المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخراً أوجز و أخضر ، و سرَّ إعادة الضمير مرَّة بعد مرة .
تقديم العبادة على الاستعانة
قلت
: أراد تقديم العبادة ـ و هي العمل ـ على الاستعانة ، فالعبادة لله و
الاستعانة للعبد ، فالله هو المعبود ، و هو المستعان على عبادته ، فإياك
نعبد ؛ أي إياك أريد بعبادتي ، و هو يتضمن العمل الصالح
الخالص ، و
العلم النافع الدال على الله ، معرفة و محبة ، و صدقا و إخلاصاً ،
فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه ، و الاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه
على جميع أموره ، و هي القول المتضمن قسم العبد.
فكل عبادة لا تكون لله و بالله فهي باطلة مضمحلة ، و كل استعانة تكون بالله وحده فهي خذلانٌ و ذل.
و
تأمل علم ما ينفع العباد و ما يدفع عنهم كل واحد من هاتين الكلمتين من
الآفة المنافية للعبودية نفعاً و دفعاً و كيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في
صريح العبودية.
القرآن مداره على هذه الكلمة و تأمل عِلم كيف يدور
القرآن كلّه من أوّله إلى آخره عليهما ، و كذلك الخلق ، و الأمر و الثواب و
العقاب و الدنيا و الآخرة ، و كيف تضمّنتا لأجلِّ الغايات ، و أكمل
الوسائل ، و
كيف أتى بهما بضمير المخاطب الحاضر ، دون ضمير الغائب ،
و هذا موضوع يستدعي كتاباً كبيراً ، و لولا الخروج عمَّا نحن بصدده
لأوضحناه و بسطناه ، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب :
"مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد و إياك نستعين " و في كتاب " الرسالة المصرية ".
ضرورة العبد لقوله {اهدنا الصِّراط المُستقيم }
ثم
ليتأمل العبد ضرورته و فاقته إلى قوله { اهدنا الصِّراط المُستقيم } الذي
مضمونه معرفة الحق ، و قصده و إرادته و العمل به ، و الثبات عليه ، و
الدعوة إليه ، و الصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال
هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية و ما نقص منها نقص من هدايته.
و لما كان العبد مفتقراً إلى هذه الهداية في ظاهره و باطنه ، بل و في جميع ما يأتيه ، و يذره من :
أنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد
* أمور فعلها على غير الهداية علماً و عملاً و إرادة ، فهو محتاج إلى التوبة منها و توبته منها هي من الهداية.
* و أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
* و أمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ ، فهو محتاجٌ إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم ، و أن يزداد هدى إلى هداه.
* و أمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.
* وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقاداً صحيحاً.
* و أمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه ، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل ، و تُثبت فيه ضدّه.
* و أمور من الهداية : هو قادر عليها ، و لكن لم يخلق له إرادة فعلها ، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة.
* و أمور منها : هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها ، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها.
* و أمور منها : هو غير قادر عليها و لا مريد لها ، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها و الإرادة لها لتتم له الهداية.
*
و أمور : هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادا و إرادة ، و علما و عملاً ،
فهو محتاج إلى الثبات عليها و استدامتها ، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية
أعظم الحاجات ، و فاقته إليها أشد الفاقات ، و لهذا فرض
عليه الرب
الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم و ليلة في أفضل أحواله ، و هي
الصلوات الخمسُ ، مرات متعددة ، لشدَّة ضرورته و فاقته إلى هذا المطلوب.
* ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب و أهل الضلال ، و هو اليهود ، و النصارى و غيرهم .
فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية :
مُنعم عليه : بحصولها له و استمرارها و حظه من المنعم عليهم ، بحسب حظه من تفاصيلها و أقسامها.
و ضالٌ : لم يُعطَ هذه الهداية و لم يُوفق لها .
و مغضوب عليه : عَرفها و لم يوفق للعمل بموجبها.
فالضال : حائد عنها ، حائر لا يهتدي إليها سبيلا.
و المغضوب عليه : متحيّر منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ، و دين الحق علما و عملاً و اعتقادا و الضال عكسه ، منسلخ منه علماً و عملاً.
و المغضوب عليه لا يرفع فيها رأسا ، عارف به علماً منسلخ عملاً ، و الله الموفق للصواب.
و
لولا أن المقصود التنبيه على المضادة و المنافرة التي بين ذوق الصلاة ، و
ذوق السماع ، لبسطنا هذا الموضوع بسطاً شافيا ، و لكن لكلِّ مقام مقال ،
فلنرجع إلى المقصود.
عبودية التأمين و رفع اليدين
و شرع له
التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته ، و حصوله ، و طابعاً عليه ، و
تحقيقاً له ، و لهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به
في صلاتهم.
ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله ، و
زينةً للصلاة ، و عبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح ، و اتباعاً
لسنَّة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو حليةُ الصلاة ، و زينتها و
تعظيمٌ
لشعائرها.
ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات
الصلاة من رُكن إلى ركن ، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ ، من مشعر إلى مشعر
، فهو شعار الصلاة ، كما أن التلبية شعار الحج ،(مميز ليعلم أن سر الصلاة
هو تعظيم
الرب تعالى و تكبيره بعبادته وحده. )
عبودية الركوع
ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة ربه ، و استكانة لهيبته و تذللا لعزته.
فثناء
العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه ، و يضع له قامته ، و
ينكس له رأسه ، و يحني له ظهره ، و يكبره مُعظماً له ، ناطقاً بتسبيحه ،
المقترن بتعظيمه.
فاجتمع له خضوع القلب ، و خضوع الجوارح ، و خضوع
القول على أتم الأحوال ، و يجتمع له في هذا الركن من الخضوع و التواضع و
التعظيم و الذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه ، و الخضوع للعبيد
بعضهم لبعض ، فإنَّ الخضوع وصف العبد ، و العظمة وصف الرب .
و
تمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ، و يتضاءل لربه ، بحيث يمحو تصاغره
لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه ، و لخلقه و يثبت مكانه تعظيمه ربه وحده
لا شريك له .
إذا عظَّم القلب الرب خرج تعظيم الخلق
و كلما
استولى على قلبه تعظيم الربِّ ، و قوى خرج منه تعظيم الخلق ، و ازداد
تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات ، و القصد و الجوارح بالتبع و
التكملة.
ثم شرع له أن يحمد ربه ، و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و
انتصابه و رجوعه إلى أحسن هيئاته ، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه و يثني
عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن تقويم ،
بأن وفقه و هداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره.
عبودية
القيام ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال و الاستواء ، واقفا في خدمته ، بين
يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك ، و لهذا شرع له من الحمد و المجد
نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك.
و لهذا الاعتدال ذوقٌ خاص و حال يحصل للقلب ، و يخصه سوى ذوق الركوع و حاله ، و هو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع و السجود سواء.
و
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُطيلُه كما يطيل الركوع و السجود
، و يُكثر فيه من الثناء و الحمد و التمجيد ، كما ذكرناه في هديه صلى الله
عليه و سلم في صلاته و كان في قيام الليل يُكثر فيه
من قول : " لربي الحَمد ، لربي الحمد " و يكرِّرها.
عبودية السجود
ثم
شرع له أن يكبر و يدنو و يخرَّ ساجدا ، و يُعطي في سجوده كل غضو من أعضائه
حظَّه من العبودية ، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه ، مسندة راغما له
أنفه ، خاضعا له قلبه ، و يضع أشرف ما
فيه ـ و هو وجهه ـ بالأرض و
لاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفِّراً له وجهه و أشرف
ما فيه بين يدي سيِّده ، راغماً أنفه ، خاضعاً له قلبه و جوارحه ،
متذلِّلاً لعظمة ربه ، خاضعاً
لعزَّته ، منيباً إليه ، مستكيناً ذلاً و خضوعاً و انكساراً ، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.
و
قد طابق قلبُه في ذلك حال جسده ، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي
الله ، و قد سجد معه أنفه و وجهه ، و يداه و ركبتاه ، و رجلاه فهذا العبد
هو القريب المقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه
و هو ساجد .
و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه ، و بطنه عن فخذيه و عَضُديه عن جنبيه ، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضاً .
فأحرِ
به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها ،
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربَّه و
هو ساجدٌ ".[رواه مسلم (482) عن أبي هريرة
رضي الله عنه ].
و لما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة ، كما قيل لبعض السلف :
هل يسجد القلب ؟
الصلاة مبناها على خمسة أركان
قال
: " أي و الله سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عزَّ و جل ".[هذا
القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى
(21/287) (23/138) ]
إشارة إلى إخبات القلب ، و ذلّه ، و خضوعه ، و
تواضعه و إنابته و حضوره مع الله أينما كان ، و مراقبته له في الخلاء و
الملأ ، و لما بنيت الصلاة على خمس : القراءة و القيام و الركوع و السجود و
الذكر .
سمّيت باسم كل واحد من هذه الخمس :
فسمّيت " قياماً " لقوله : { قُم اللَّيل إلاَّ قليلاً} [ المزمل :2] ، و قوله : {وقُومُوا لله قانتين} [البقرة :238].
و "قراءة" لقوله : {وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُوداً} [الإسراء :78] ، {فاقرءوا ما تيَسَّر منه } [المزمل :48].
و سمّيت " ركوعاً " لقوله : { و اركعُوا مع الرَّاكعين } [ البقرة :43] ، { و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعُون}[المراسلات :48].
و " سجوداً " لقوله : { فسبِّح بحمد ربِّك و كن مّن السَّاجدين} [ الحجر : 98] ، وقوله { و اسجُد و اقترب} [العلق :19].
و "ذكراً " لقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله} [ الجمعة :9] ، { لا تُلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون :9].
و
أشرف أففعالها السجود ، و أشرف أذكارها القراءة ، و أول سورة أنزلت على
النبي صلى الله عليه و سلم سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة ، و
خُتمت بالسجود ، فوضعت الركعة على ذلك ، أولها
قراءة و آخرها سجود.
حال
العبد بين السجدتين ثم شرع له أن يرفع رأسه ، و يعتدل جالساً ، و لما كان
هذا الاعتدال محفوفا بسجودين ؛ سجود قبله ، و سجود بعده ، فينتقل من السجود
إليه ، ثم منه إلى السجود الآخر ، كان له شأن
، فكان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه
فيه ، و يدعوه و يستغفره ، و يسأله رحمته ، و هدايته و رزقه و عافيته ، و
له ذوق خاص ، و حال للقلب
غير ذوق السجود و حالهن ؛ فالعبد في هذا
القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه ، مُلقيا نفسه بين يديه ، مُعتَذراً إليه
مما جَناَه ، راغباً إليه أن يغفر له و يرحمه ، مستَعدياً له على نفسه
الأمَّارة بالسوء.
لماذا الاستغفار بين السجدتين
و قد
كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول : " رب
اغفر لي ، رب اغفر لي ، رب اغفر لي " ، و يكثر من الرغبة فيها إلى ربه.
فمثِّل
أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق ، و أنت كفيل به ، و الغريم
مماطل مخادع ، و أنت مطلوب بالكفالة ، و الغريم مطلوب بالحق ، فأنت تستعدي
عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق ،؛
لتتخلص من المطالبة ، و القلب شريك النفس في الخير و الشر ، و الثواب و العقاب ، و الحمد و الذم .
و
النفس من شأنها الإباق و الخروج من رقِّ العبودية ، و تضييع حقوق الله عو و
جل و حقوق العباد التي قبلها ، و القلب شريكها إن قوي سلطانها و أسيرها ، و
هي شريكته و أسيرته إن قوي سلطانه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من
السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديا على نفسه ، معتذرا من ذنبه إلى
ربه و مما كان منها ، راغباً إليه أن يرحمه و يغفر له و يرحمه و يهديه و
يرزقه و يعافيه ، ز هذه
الخمس كلمات ، قد جمعت جماع خير الدنيا و
الآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا و في الآخرة ، و
دفع المضار عنه في الدنيا و الآخرة ، و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله.
فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه و أخراه و يجمع رزق بدنه و رزق قلبه و روحه ، و هو أفضل الرازقين.
و العافية تدفع مضارّها.
و الهداية تجلب له مصالح أخراه.
و المغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و الآخرة.
و الرحمة تجمع ذلك كلّه. و الهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها.
و
شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان ، و لا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة
كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب العبد من ربِّه
و موقعه من الله عز و جل ، حتى إنَّه أقرب ما
يكون إلى ربه و هو
ساجد ، و هو أشهر في العبودية و أعرق فيها من غيره من أركان الصلاة ؛ و
لهذا جُعل خاتمة الركعة ، و ما قبله كالمقدمة بين يديه ، فمحلّه من الصلاة
محل طواف الزيارة ، و كما أنه
أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد
، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك و هو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب
ابنته و هو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال : أتذكر أمراً
من
أمور الدنيا و نحن نتراءى لله سبحانه و تعالى في طوافنا.
و لهذا و الله أعلم ، جُعل الركوع قبل السجود تدريجا و انتقالاً من الشيء إلى ما هو أعلى منه.
لماذا يكرر السجود مرتان
و
شُرع له تكرير هذه الأفعال و الأقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح التي لا
قوام لهما إلا بها ، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى
يشبع ، و الشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى ، فلو تناول
الجائع لقمة
واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت يغني عنه تلك اللقمة ؟ و ربما
فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به ؛ و لهذا قال بعض السلف : " مثل الذي يصلي
و لا يطمئن في صلاته كمثل
الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك".
و
في إعادة كل قول أو فعل من العبودية و القرب ، و تنزيل الثانية منزلة
الشكر على الأولى ، و حصول مزيد خير و إيمان من فعلها ، و معرفة و إقبال و
قوة قلب ، و انشراح صدر و زوال درنٍ و وسخٍ عن
القلب بمنزلة غسل الثوب مرَّة بعد مرَّة .
فهذه
حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه و أمره ، و دلَّت على كمال
رحمته و لطفه ، و ما لم تحط به علماً منها أعلى و أعظم و أكبر و إنما هذا
يسير من كثير منها.
فلما قضى صلاته و أكملها و لم يبق إلا الانصراف
منها ، فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنياً عليه بما هو أهله ، فأفضل
ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله ، و لا تليق
بغيره.
عبودية الجلوس للتشهد و معنى التحيات
و لما كان من
عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال و الأقوال المتضمنة للخضوع
لهم ، و الذل ، و الثناء عليهم و طلب البقاء ، و الدوام لهم ، و أن يدوم
ملكهم.
فمنهم : من يحيّي بالسجود و منهم من يحيي بالثناء عليه
و منهم : من يحيي بطلب البقاء ، و الدوام له .
و منهم : من يجمع له ذلك كلّه فيسجد له ، ثم يثني عليه ، ثم يدعي له بالبقاء و الدوام.
و
كان الملك الحق المبين ، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات
كلِّها من جميع خلقه ، و هي له بالحقيقة و هو أهلها ؛ و لهذا فُسرت التحيات
بالملك ، و فسرت بالبقاء و الدوام ، و حقيقتها ما
ذكرته ، و هي تحيات المُلك و المَلك و المليك.
فالله
سبحانه هو المتصف بجميع ذلك ، فهو أولى به فهو سبحانه المَلك ، و له
المُلك ، فكل تحية تحي بها ملك من سجود أو ثناء ، أو بقاء ، أو دوام فهي
لله على الحقيقة ؛ و لهذا أتى بها مجموعة معرَّفة بالألف
و اللام
إرادة للعموم ، و هي جمع تحية ، تحيا بها الملوك ، و هي " تُفعُلة" من
الحياة ، و أصلها " تحييه" على وزن " تكرمه" ، ثم أدغم إحدى اليائين في
الآخر فصارت " تحيَّة " فإذا كان أصلها من
الحياة ، و المطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة ، كما كانوا يقولون لملوكهم :
لك الحياة الباقية ، و لك الحياة الدائمة.
و بعضهم يقول : عش عشرة آلاف سنة.
و اشتق منها :
أدام الله أيامك أو أيامه ، و أطال الله بقاءك.
و نحو ذلك مما يراد به دوام الحياة و الملك ، فذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت.
الذي كل مَلكٍ سواه يموت ، و كل مُلك سوى ملكه زائل.
عطف الصلوات و الطيبات
ثم
عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع و التعريف ؛ ليشمل ذلك كلّما أُطلق عليه لفظ
الصلاة خصوصا و عموماً ، فكلّها لله و لا تنبغي إلا له ،فالتحيات له ملكاً
، و الصلوات له عبودية و استحقاقاً ، فالتحيات لا
تكون إلا لله ، و الصلوات لا تنبغي إلا له .
ثم عطف عليها بالطيِّبات ، و هذا يتناول أمرين : الوصف و الملك.
فأما
الوصفُ : فإنه سبحانه طيِّب ، و كلامه طيِّبٌ ، و فعله كلّه طيب ، و لا
يصدر منه إلا طيّب ، و لا يضاف إليه إلا الطيِّب ، و لا يصعد إليه إلا
الطيّب.
معنى الطيِّبات فالطيبات له وصفاً و فعلاً و قولاً و نسبةً ،
و كلّ طيّب مضاف إليه طيّب ، فله الكلمات الطيبات و الأفعال ، و كلّ مضاف
إليه كبيته و عبده ، و روحه و ناقته ، و جنته دار الطيبين ، فهي
طيبات
كلّها ، و أيضا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده ، فإنها تتضمن تسبيحه ، و
تحميده ، و تكبيره ، و تمجيده ، و الثناء عليه بالآئه و أوصافه ؛ فهذه
الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها ، و معانيها له
وحده لا شريك له : كسبحانك اللهمَّ و بحمدك وتبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك.
و كسبحان الله و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر.
و
سبحان الله و بحمده ، سبحان الله العظيم ، و نحو ذلك . و كلّ طيّب له و
عنده و منه و إليه ، و هو طيّب لا يقبل إلا طيّباً ، و هو إله الطيبين و
ربهم ، و جيرانه في دار كرامته ، هم الطيبون.
أطيب الكلام بعد القرآن
فتأمل
أطيب الكلمات بعد القرآن ، كيف لا تنبغي إلا لله ؟ و هي : سبحان الله و
الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله ،
فإن " سبحان الله " تتضمن تنزيهه عن كل نقص و عيب و
سوء عن خصائص المخلوقين و شبههم.
و " الحمد لله " تتضمن إثبات كلّ كمال له قولاً ، و فعلاً ، و وصفاً على أتمِّ الوجوه ، و أكملها أزلاً و أبداً .
و
" لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية ، و أن كل معبود سواه باطل ، و
أنه وحده الإله الحق ، و أن من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتاً من
بيوت العنكبوت ، يأوي إليه ، و يسكنه من الحرِّ و البرد ،
فهل يغني عنه ذلك شيئاً .
و
" الله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء ، و أجل ، و اعظم ، و أعز و
أقوى و أمنع ، و أقدر ، و اعلم ، و أحكم ، فهذه الكلمات لا تصح هي و
معانيها إلا لله وحده.
عبودية التَّسليم على الأنبياء و الصالحين ثم
شرع له أن يسلِّم على سائر عباد الله الصالحين ، و هم عباده الذين اصطفى
بعد الثناء ، و تقديم الحمد لله فطابق ذلك قوله : { قُل الحمدُ للهِ و
سلامٌ على عباده الذين
اصطفى}[النمل :59] ، و كأنه امتثال له ، و
أيضا فإن هذا تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق و قدم في هذه التحية أولى
الخلق بها و هو النبي صلى الله عليه و سلم ، الذي نالت أمته على يده كل
خير
، و على نفسه ، و بعده و على سائر عباد الله الصالحين ، و
أخصهم بهذه التحية الأنبياء و الملائكة ، ثم أصحاب محمد صلى الله عليه و
سلم ، و أتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في السماء و الأرض.
ثم شرع له بعد هذه التحية السلام على من يستحق السلام عليه خصوصاً و عموماً.
معنى الشهادتين في التحيات
ثم
شرع له أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة ، و الصلاة حق من
حقوقها ، و لا تنفعه إلا بقرينتها و هي الشهادة للرسول صلى الله عليه و سلم
بالرسالة ، و ختمت بها الصلاة كما قال عبد الله بن
مسعود : " فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك ، فإن شئت فقم و إن شئت فاجلس".
و
هذا إما أن يحمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة ، كما يقوله الكوفيون ،
او على مقاربة انقضائها و مشارفته ، كما يقول أهل الحجاز و غيرهم ، و على
التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة . كما
شرع أن تكون هي خاتمة الحياة.
"فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
و كذلك شرع للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين ، ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته.
الصلاة على النبيِّ
و
شر